الكورونا وإرادة التغيير

لا يكاد يكتمل أسبوع علي الأزمة التي أحلّت بالعالم شرقا وغربا، فلم يلبث للعالم ساكن ولم يعفي شخص بمقدار من الذعر وأطنان من الأنباء المفجعة والأخبار المفزعة. هلعت الحكومات تصدر قرارات لم يسبق أن وردت علي تاريخ أوطانها، فرأينا مطارات تغلق وطلاب توصد في وجوههم أبواب المدارس والجامعات ومصانع تقلل قوة عمالتها وموظفين يأخذون إجازات بدون راتب واخرين يعملون من المنازل.  نشهد اليوم للمرّة الأولي في مصر وقف الأزهر لصلوات الجمعة والصلوات الجمعية والكنيسة اقامة القداسات وجميع الأنشطة. أكثر الدول غني وأضخمهم شهرة بالفنون والأدب والعلوم وأعلاهم في نسب السياحة العالمية، رأينا حدودهم تتحوّل قضبان تسجنهم مع وباء فتّاك، لا يضع شيئا أمامه سوي أن يتكاثر وينمو ويقوي علي حساب الاف الارواح.

فأقامت الحكومات حظر التجوال وأغلقت كل الأماكن العامّة التي تعد مصدرا للتجمعات وفي غضون بضع أيام، تغيّر وجه الحياة علي كوكبنا كما نعهدها. ومن البديهي ألا يمكن أن تتغيّر الحياة الا ويجب أن تتغيّر سلوكيات الأفراد فالشعوب فالجنس البشري أجمع. وهنا لا يخفي أمامنا ولا نقدر أن نمسك عن التساؤل 
-اذ نحن جميعا واقعين تحت نير هذه الإقامة الجبريّة عينها- الي ماذا تغيرت سلوكياتنا؟ وما الهدف الذي من أجل تحقيقه تغيّرنا فتغيّرت سلوكياتنا؟

بهذين السؤالين نعود الي ما كتبه الفيلسوف المصري الراحل زكي نجيب محمود. يبدأ شرحه لمبدأ إرادة التغيير، فيقول "ان كل إرادة تولد فعل، والفعل يحقق هدف ما، لذا قولنا إرادة الفعل هو هو قولنا إرادة لأن ليس هناك إرادة بغير فعل. وكما أنه لا توجد إرادة بغير فعل، كذلك أيضا لا يوجد فعل لا يحدث نوعا من أنواع التغيير، ضئيلا كان أم جسيما، فهو يظل تغيير ويكمل فيلخّص هذا الجزء بقوله "كل إرادة فعل، وكل فعل هو حركة وتغيير، فالتغيير هو عنصر أساسي من عناصر الإرادة."

 تفشّت الكورونا في العالم الأسبوع الماضي، وابتلعت ضحايا من معظم البلدان والجنسيات، فترتّب عليه ظهور الإرادة الإنسانية التي أساس ظهورها التغيير. نحن لا نريد الكورونا في العالم، لا ولا نريد أن نكون في تهديد دائم بفقد أحباءنا وخسارة مصادر قوتنا. فما منّا الا أننا وحّدنا ارادتنا لمجابهة الفيروس الجديد بأفعال غيّرت أسلوب حياتنا والحياة كما نعهدها. الكورونا أو كوفيد-19 كما يطلق عليه، أستطاع للمرة الأولي أن يجعلنا كجنس بشري نحقق ما اتخذه زكي نجيب محمود جوهرا لمقاله بأن " لا تكون إرادة التغيير قد نالت من حياتنا قيد أنملة اذا نحن أولا: لم نوّحد في أذهاننا توحيدا تاما بين العام والخاص, فنحن  بما ورثنا من تقليد اجتماعي أحرص ما نكون علي الملك الخاص, وأشد ما نكون اهمالا للملك العام. فالفرق في انظارنا بعيد بين معني (أنا) و(نحن) وبين معني (هو) و (هم) فما يزال الذي يشغلنا هذه (الأنا) و(النحن) اللتان لا تعنيان أكثر من الأسرة وحدودها، وأما (هو) و (هم) اللتان تمتدان لتشملا أبناء الوطن جميعا فما تزالان في أوهامنا، تدلان علي ما يشبه الأشباح التي لا يؤذيها التجويع والتعذيبوثانيا: اذا نحن لم ننقل مواضع الزهو، فبدل أن يزهي المرء بنفسه لأنه ليس مضطرا للخضوع للقانون كما يخضع له عامة السواد، يزهي المرء بنفسه بقدر ما هو خاضع لقانون الدولة سواء كان خضوعنا هذا في العلانية أو في الخفاء ويكرر مؤكدا "فنحن بحكم التقليد الاجتماعي الذي ورثناه ما نزال نعلّي من مكانة الذين لا تسري عليهم القوانين سريانها علي الجماهير"

كانت هذه دعوة للإصلاح الاجتماعي والثقافي في مصر، وأتجاسر فأقول انها أيضا دعوة للإصلاح الإنساني في كافة ربوع وأركان العالم. طوال قرون طالت وأجيال عاشت وملامح الأرض التي غيّرناها بفسادنا وأنانيتنا وحروبنا. لم تعمل إرادة التغيير في جنسنا البشري ولم تفلح قط، بقدر ما فلحت في أخر بضعة أيام مرّت علي كوكبنا وجنسنا مثل الكابوس المروّع. ينهي الأستاذ زكي نجيب بالجواب علي السؤالين الذين تتطلبوا اصابتنا بالكورونا أن نتبعهم "المهم في إرادة التغيير أن نعرف ماذا نغيّر من حياتنا؟ وكيف تغيره؟"

"الذي نريد له أن يتغيّر هو القيم التي نقيس بها أوجه الحياة. وكيفية تغييرها هي أن نختار لكل موقف معيارمن شأنه أن يحقق أكبر نفع وقوة وكرامة واستنارة وأمن لأكبر عدد من أبناء الشعب"

فما الذي كان سيحدث لو أن الصين قد أتبعت هذه القيم وهذه المعايير في تحقيقها، ممثلة في أفرادها ومؤسساتها وحكومتها. بيت القصيد ليس لوم الصين، ولكن دعوة للصحو لكل البلاد والشعوب والأشخاص، الذين ينتظرون أوبئة عالمية ولا يعبئون بنتيجة أفعالهم الشخصية والوطنية فيدمرون الأرض ويتسببون في زيادة الاحتباس الحراري وحرائق الغابات وازدياد معدلات التلوّث وفي النهاية وضع الجنس البشري كله تحت تهديد الانقراض فقط لأن جل ما يهمهم هو النظر لمصلحتهم الشخصية والافتخار بكسر القوانين التي تهدف الي سلامة وازدهار ونمو الجنس البشري. ستظل ما فعلته الصين في الأيام القليلة الماضية من خطوات اتبعتها لمجابهة الفيروس وتصحيح الخطأ يشهد علي دول مثل إيطاليا وكوريا وايران وطريقة تناول شعوبهم للقيم والمعايير المؤدية لسلامتهم. في الصين يحتفلون بخلو المقاطعة التي هي أصل الوباء من الحالات المصابه وفي إيطاليا يندبون مئات ضحاياهم اليوميين. أمامنا الموت وأمامنا الحياة، فلن يديننا أحد سوي أنفسنا.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دعوة صحوْ للرجال

العمل والإحتياجات

القيمة، الخزي، والحب